تصايح الأطفال وهم يرفعون رؤوسهم نحو رأس النخلة الطويلة "الدخينيّة" .
(ثعبان . انتبه الثعبان يا"عفيصان) .
وكان عفيصان قد تسلق نخلة الشيخ" جويبيح" ليقطع جريدها الخارجي القديم ويلقحها بحبوب "فحّال" النخل كما يفعل كل موسم مع عشرات النخيل .
كان قد ترك حذاءه -كما يفعل دائماً- وربط حبلاً حول وسطه وحول النخلة , ثم اطمأن إلى متانته وإلى عقدته حتى لاينفلت أو ينقطع . ثم جعل بقايا الجريد القديم على ساق النخلة كلابات يتعلق بها الحبلُ وسلالم تتشبث بها قدماه . ويبدو أن ماسببه وجوده من حركة أعلى النخلة , قد أزعج ثعباناً كان قد جذبه إلى هذا المكان يمام لابد أن به فراخه أو بيضه , ولابد أن الثعبان كان قد التهم ما بالعش , ثم نام مطمئناً حتى يهضم ما التهم . فلما أيقظته حركة "عفيصان" أطل برأسه على جموع الصبية الذين تحلّقوا أسفل نخلة الدخينية " , فانتابهم مزيج شعور بالخوف والنشوة , بعضهم تسمر في مكانه وبعضهم طار إلى القرية يذيع النبأ ويطلب النجدة . وسرعان ما أصبح عفيصان على كل لسان في القرية , فتسابق الكبار والصغار يشهدون عفيصان وهو يتأرجح بين الموت والحياة . والنسوة اللاتي يخبزن في منزل " الخرانيق" تركن العجين وهرولن إلى حوش النخل , والشيخ جويبيح نفسه صاحب النخلة الذي كان مريضاً لايستطيع الحركة دبّت فيه الحيوية وخرج يعدو كالطفل حتى لايفوته المشهد المثير .
وهكذا وجدت القرية الصغيرة حدثاً يخرج بها عن إيقاع حياتها الرتيب , ويجد فيه الرجال مادةَ سمرهم لمدة ليالٍ طويلة .
وعندما أخرج الثعبان لسانه الطويل المشقوق كأنه يتحدى أهل القرية صاح الأولاد رعباً وفرحاً . أما عفيصان فقد سكنت حركته كأنما شل , ربما حتى لاينبّه الثعبان إلى وجوده برغم الصيحات التي كانت تنصحه بأن يضرب الثعبان "بالمحش" فيقسمه نصفين , ويهوي النصف الذي فيه الرأس إلى الأرض .
وأخيراً أقبل ناصر البواردي حاملاً بندقيته , كأنه قنّاص بغداد , وفي حركة بطولية تكسب الجماهير وترهبهم معاً , صوّب بندقيته نحو الثعبان . وأشفق بعض الموسوسين أن تصيب الرصاصة عفيصان بدلاً من أن تصيب الثعبان , أو ألا تصيب الثعبان في مقتل فيكون الضحية عفيصان . غير أن ناصر البواردي الذي كان قد سبق له أن جاهد الروس في أفغانستان لم يخيّب ظنّ الذين يثقون بمهارته في التصويب , فقد أطلق عياراً نارياً واحداً بعده اختفت رأس الثعبان , وشوهد بقية الجسد وهو يتدلّى كالحبل وإن ظل يتلوى بعض الوقت حتى همد , بينما ظل نصفه الأعلى منحشراً بين سعف النخل . وصفق الأطفال , وصاحوا من جديد , وطأطأوا رؤوسهم يبحثون في الأرض عن رأس الأفعى , ويتسابقون فيمن يعلن فوزه في العثور عليها قبل غيره . ولكن مضت الدقائق دون جدوى , وقد عاد الخوف يتملك الجميع أن تكون في الرأس بقية من حياة فتلدغ من يقربها . بينما هبط عفيصان من النخلة مسرعاً دون أن يتم مهنته , فلعل الصدمة قد شلت قواه وما يزال أثرها عليه حتى بعد انفراجها .
ولامست قدماه الحافيتان الأرضَ وسط تهاليل الأطفال وابتهاج زوجته وابنته , وأصوات تهيب به أن ينتعل حذاءه لئلا تكون رأس الأفعى هنا أو هناك فتؤذيه .
وضع عفيصان قدمه اليمنى في فردة حذائه الأيمن . وما إن همّ بوضع قدمه اليسرى في فردة حذائه الأيسر حتى سحبها وهو يصيح (قتلني الثعبان) . ولم ندرك أول الأمر ماحدث , غير أننا رأيناه يشير إلى داخل حذائه . وأدرك البعض خطورة ماحدث , فانقسموا فريقين : فريق انهال بالحجارة والعصي على الحذاء حتى سحقوا الرأس -والحذاء أيضاً- تماماً وفريق يحاول إنقاذ عفيصان أو نقله إلى مركز الرعاية الصحية أو استدعاء طبيبها , وقد انقلبت صيحات الفرح إلى عويل . غير أنه سرعان ما تمدد بجوار حذائه بلا حراك .
وتساءل أكثر من صوت معلقاً سراً وعلناً " سبحان الله , لماذا إذن نجا وهو فوق النخلة ؟"
وأجاب إمام جامع القرية ( لم يكن عمره وقتئذٍ قد انتهى , كانت ما تزال به بقية )