من أين ينبت الحب؟
من أين تبدأ الرحلة وأين توجد قواعده مدرجة في كتاب كان أو في مذكرة أحد الحكماء من زمن سبق .. حين تجد نفسك تقرأ نصوصا تستلهم التراث الصوفي فحتما سيكون النص الأدبي ممتعا للغاية، لأنها ليست قراءة لحكاية عادية، إنها قراءة لتفاصيل النفس البشرية بكل السلام والصراع بداخلها، طرح لأسئلة كبرى لم تجد إجابة حتى الآن، وانسيابية ممتعة للتعرف على زوايا فكرية مهملة من الطرح في الروايات العادية، التي تلتهم التفاصيل فيها أكثر من المعاني الكبرى المختبأة وراء النص .. هذا هو ربما ما سنتعرض له عند قراءة رواية الكاتبة التركية (إليف شفق) .. أربعون قاعدة للحب.
الرواية تسرد لك بأسلوب سلس حكاية امرأة أربعينية عادية، محبطة مما حققته في حياتها الماضية ولا تجد نفسها في ما تملكه حاليا، سواء من زوج مخادع أو من ثلاثة أولاد لهم من المشاكل ما يجلب القلق أكثر مما يجلب السكينة في هذه السن. الوحدة أصبحت العنوان الأبرز لتلك المرحلة في حياتها. بداية عادية جدا تدفعك لتوقع بقية القصة، ستغير تلك المرأة مسار حياتها في الصفحة الأخيرة إما بقتل نفسها أو بقتل زوجها على أقصى تقدير، والتفاصيل الجذابة والمشوقة هي التي ستوضح لك لاحقا لماذا تعتبر الرواية من الروايات الأكثر مبيعا .. لكن ليس هذا هو الحال، فـ(إلا)، البطلة، ستواجه تغييراً حياتياً بالفعل لكن بحجم هائل للغاية يصعب تصور أبعاده وعمقه معا..
حين تقرر (إلا) أنها ستعمل عملا بدوام جزئي لتحقق إنجاز ما في حياتها، ويكون العمل في وكالة لطبع الكتب، يوكل إليها نقد رواية ستقوم الوكالة بطبعها وعليها أن تكتب مدى صلاحيتها لذلك، فتلتقي بذلك بالنقطة الفارقة في حياتها، فرواية (عزيز) وهي ( كُفر جميل) سيمفونية صوفية العزف تستلهم حياة مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، في وقت كانت فيه بغداد عاصمة ثقافية تنير العالم بما تحويه، وفي بلدة صغيرة هي موطن للعلماء والفلاسفة في هذا العصر، قبل أن ينتصر أنصار الدولة الأموية على المغول وتصير لهم مقاليد الأمور.
هنا تندمج البطلة كليا في نسيج القصة بين شخصية شمس التبريزي الذي يقابل مولانا جلال الدين الرومي ليكون رفيقه مكملا كلا منهما الآخر علما وحكمة، في رحلة سيخرج منها الرومي شاعراً بعد أن كان معلما أكاديميا ورمزا للصوفية فقط، وسيخرج منها شمس بمصير لن تتوقعه إلا بالابحار مع الأحداث..
من خلال القوى الأساسية في الكون، الأرض، الماء، الريح، النار، والعدم، تحملك مجموعة من القواعد في حب الله وفلسفة الكون والاسلام لتتصل روحيا مع الأبطال والمعلمين، كما ستشعر عند التقائهم على الأوراق، وستتبلور تلك القواعد في النهاية لتفسر بكل واقعية طبيعة الحياة.
القصص التي ستمر بمولانا جلال الرومي والتي كانت أشبه بالرحلة التعليمية خطّها له شمس ليكمّل له مسيرة اكتمال تحوله لشاعر كأعظم ما يكون، فيقابل فيها فئات بشرية لم يكن لينظر إليها، فيضيف له عمقا وتفهما لطبيعة النفس، فكان هناك سليمان المخمور، زهرة الصحراء التي تعمل في الجنس التجاري، المتسول، وغيرهم من فئات مهمشة ومهملة حتى من ذاكرة العالم، فيتحرر من كثير من الأحكام المسبقة ليصل إلى عالم أوسع وأرحب، وجب أن يكون هو الصورة المرجوة من عالمنا ..
إن كل قاعدة في هذه الرواية من القواعد الأربعين، وكل محادثة بين أبطالها، هي بوابة لتفكير عميق في فلسفة الكون، لذا فقرائتها هي تجربة لن تندم عليها أبدا، حتى تصل للقاعدة رقم أربعين وهي "إن الحياة دون حب هي حياة لا تحسب، لا تسأل نفسك أي نوع من الحب تبحث، روحي، مادي، إلهي، شرقي أو غربي ..التقسيم لن يجلب لك إلا مزيدا من التقسيم. الحب ليس له مسمى، أو تعريف، إنه كما هو، نقي وبسيط، الحب هو ماء الحياة والمحب هو روح من نار، والدنيا تختلف تماما عند التقاء النار والماء معا" ..